فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} أي: تنزيل الله الذي يوحيه إلى من عنده وأخوفكم به بأسه، لا بالإتيان بما تستعجلون، لأن ذلك ليس إلى، على ما فيه من الحكمة في هذه البعثة التي بنيت على البراهين العقلية، لا الخارقات الحسية كما قدمنا. ثم أشار إلى كمال جهلهم وعنادهم، بأن هذا الإنذار لا يجديهم، بقوله تعالى: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدعاء إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} أي: فهم لا يصغون بسمع قلوبهم إلى تذكر ما في وحي الله من المواعظ والذكرى، فيتذكرون بها ويعتبرون فينزجرون إذا تلي عليهم، بل يعرضون عن الاعتبار به والتفكير فيه، فعل الأصم الذي لا يسمع ما يقال له فيعمل به. وتقييد تصامهم بقوله: {إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} مع أنهم لا يسمعون نذارة ولا بشارة، إما لأن المقام مقام إنذار، أو لأن من لا يسمع إذا خوف، كيف يسمع في غيره، فهو أبلغ.
{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي: ولئن أصابهم شيء أدنى من عقوبته تعالى، لأذعنوا وذلوا وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم في التصامّ والإعراض وعبادة تلك الآلهة وتركهم عبادة من خلقهم.
لطيفة:
في صدر الآية مبالغات. ذكر المس. وما في النفحة من معنى القلة. فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء. والبناء الدال على المرة. والتنكير. وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه. أي: نقيم الموازين العادلة الحقيقية التي توزن بها صحائف الأعمال. وقيل: وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السويّ والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة، من غير أن يظلم مثقال ذرة. وإنما وصفت الموازين بالقسط وهو مفرد، لأنه مصدر وصف به للمبالغة، كأنها في نفسها قسط. أو على حذف المضاف أي: ذوات القسط. وقيل إنه مفعول له. واللام في ليوم القيامة للتعليل أو بمعنى في أي: لجزاء يوم القيامة أو لأهله أو فيه: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} أي: من حقوقها. أي: شيئًا ما من الظلم. بل يوفى كل ذي حق حقه: {وَإِنْ كَانَ} العمل أو الظلم: {مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} أي: أحضرنا ذلك العمل المعبر عنه بمثقال حبة الخردل. للوزن. وأنث لإضافته إلى الحبة: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} أي: وحسب من شهد ذلك الموقف بنا حاسبين. لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم، وما سلف في الدنيا من صالح أو سيء، منا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يضع الموازين القسط ليوم القيامة. فتوزن أعمالهم وزنًا في غاية العدالة والإنصاف: فلا يظلم الله أحدًا شيئًا، وأن عمله من الخير أو الشر، وإن كان في غاية القلة والدقة كمثقال حبة من خردل، فإن الله يأتي به. لأنه لا يخفى عليه شيء وكفى به جل وعلا حاسبًا. لاحاطة علمه بكل شيء.
وبين في غير هذا الموضع: أن الموازين عند ذلك الوزن منها ما يخف، ومنها ما يثقل. وأن من خفت موازينه هلك، ومن ثقلت موازينه نجا. كقوله تعالى: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: 8- 9] وقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 101- 103]، وقوله تعالى: {فَأَمَا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 6- 9] إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره جل وغلا في هذه الآية الكريمة: من أن موازين يوم القيامة موازين قسط ذكره في الأعراف في قوله: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} [الأعراف: 8] لأن الحق عدل وقسط. وما ذكره فيها: من أنه لا تظلم نفس شيئًا بينه في مواضع أخر كثيرة، كقوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولَكِن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]، وقوله تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة الكهف.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من كون العمل وإن كان مثقال ذرة من خير أو شر أتى به جل وعلا أوضحه في غير هذا الموضع، كقوله عن لقمان مقررًا له: {يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7- 8] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَنَضَعُ الموازين} جمع ميزان. وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص، لقوله: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8]، وقوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 9] فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله، كما قال الشاعر:
ملك تقوم الحادثات لعدله ** فلكل حادثة لها ميزان

والقاعدة المقررة في الأصول: أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأ'مال الموزونة فيه.
وقد قدمنا في آخر سورة الكهف كلام العلماء في كيفية وزن الأعمال، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله في هذه الآية {القسط} أي العدل، وهو مصدر، وصف به، ولذا لزم إفراده كما قال في الخلاصة:
ونعتوا بمصدر كثيرًا ** فالتزموا الإفراد والتذكيرا

كما قدمناه مرارًا. ومعلوم أن النعت بالمصدر يقول فيه بعض العلماء: إنه للمبالغة. وبعضهم يقول: هو بنية المضاف المحذوف، فعلى الأول كأنه بالغ في عدالة الموازين حتَّى سماها القسط الذي هو العدل. وعلى الثاني فالمعنى: الموازين ذوات القسط.
واللام في قوله: {لِيَوْمِ القيامة} فيها أوجه معروفة عند العلماء:
منها أنها للتوقيت، أي الدلالة على الوقت، كقول العرب: جئت لخمس ليال بقين من الشهر، ومنه قول نابغة ذبيان:
توهمت آيات لها فعرفتها ** لستة أعوام وذا العام سابع

منها أنها لام كي، أي نضع الموازين القسط لأجل يوم القيامة، أي لحساب الناس فيه حسابًا في غاية العدالة والإنصاف.
منها أنها بمعنى في، أي نضع الموازين القسط في يوم القيامة.
والكوفيون يقولون: إن اللام تأتي بمعنى في، ويقولون: إن من ذلك قوله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} أي في يوم القيامة، وقوله تعالى: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] أي في وقتها. ووافقهم في ذلك ابن قتيبية من المتقدمين، وابن مالك من المتأخرين، وأنشد مستشهدًا لذلك قول مسكين الدارمي:
أُولئك قومي قد مَضوا لسبيلهم ** كما قد مَضَى من قَبل عاد وتبَّع

يعني مضوا في سبيلهم. وقول الآخر:
وكل أب وابن وإن عَمَّرا معًا ** مقيمَيْن مفقود لوقتٍ وفاقد

أي في وقت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} يجوز أن يكون {شَيْئًا} هو المفعول الثاني لـ: {تُظْلَمُ} ويجوز أن يكون ما ناب عن المطلق. أي شيئًا من الظلم لا قليلًا ولا كثيرًا. ومثقال الشيء: وزنه. والخردل: حب في غاية الصغر والدقة. وبعض أهل العلم يقول: هو زريعة الجرجير. وأنث الضمير في قوله: {بِهَا} هو راجع إلى المضاف الذي هو {مِثْقَالَ} وهو مذكر لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه الذي هو {حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} على حد قوله في الخلاصة:
وربما أكسب ثان أولا ** تأنيثًا إن كان لحذف مؤهّلا

ونظير ذلك من كلام العرب قول عنترة في معلقته:
جاد عليه كل عين ثرة ** فتركن كل قرارة كالدرهم

وقول الراجز:
طول الليالي أسرعت في نقضي ** نقضن كلي ونقضن بعضي

وقول الأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ** كما شرقت صدر القناة من الدم

وقول الآخر:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ** أعاليها مر الرياح النواسم

فقد أنث في البيت الأول لفظة كل لإضافتها إلى عين. وأنث في البيت الثاني لفظة طول لإضافتها إلى الليالي وأنث في البيت الثالث الصدر لإضافته إلى القناة وأنث في البيت الرابع مر لإضافته إلى الرياح. والمضافات المذكورة لو حذفت لبقي الكلام مستقيمًا. كما قال في الخلاصة:
......... ** إن كان لحذف مؤهلا

وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعًا {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} بنصب {مِثْقَالَ} على أنه خبر {كَانَ} أي وإن كان العمل الذي يراد وزنه مثقال حبة من خردل. وقرأ نافع وحده {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ} بالرفع فالع {كَانَ} على أنها تامة. كقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}.
استئناف ابتدائي مقصود منه الإتيان على جميع ما تقدم من استعجالِهم بالوعد تهكمًا بقوله تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد} [الأنبياء: 38]، من التهديدِ الذي وُجه إليهم بقوله تعالى: {لو يعلم الذين كفروا} [الأنبياء: 39]... إلخ.
ومن تذكيرهم بالخالق وتنبيههم إلى بطلان آلهتهم بقوله تعالى: {قل من يكلؤكم بالليل والنهار} إلى قوله تعالى: {حتى طال عليهم العمر} [الأنبياء: 42-44]، ومن الاحتجاج عليهم بظهور بوارق نصْر المسلمين، واقتراب الوعد بقوله تعالى: {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} [الأنبياء: 44]، عُقب به أمر الله رسوله أن يخاطبهم بتعريف كنه دعوته، وهي قصره على الإنذار بما سيحلّ بهم في الدنيا والآخرة إنذارًا من طريق الوحي المنزل عليه من الله تعالى وهو القرآن، أي فلا تعرضوا عنه، ولا تتطلبوا مني آية غير ذلك، ولا تسألوا عن تعيين آجال حلول الوعيد، ولا تحسبوا أنكم تغيظونني بإعراضكم والتوغل في كفركم.
فالكلام قصر موصوف على صفة، وقصره على المتعلق بـ تلك الصفة تبعًا لمتعلقه فهو قائم مقام قصرين.
ولم يظهر لي مِثال له من كلام العرب قبل القرآن.
وهذا الكلام يستلزم متاركة لهم بعد الإبلاغ في إقامة الحجة عليهم وذلك ذيل بقوله تعالى: {ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون}.
والواو للعطف على {إنما أنذركم بالوحي} عطف استئناف على استئناف لأن التذييل من قبيل الاستئناف.
والتعريف في {الصُّم} للاستغراق.
والصمم مستعار لعدم الانتفاع بالكلام المفيد تشبيهًا لعدم الانتفاع بالمسموع بعدم ولوج الكلام صماخ المخاطب به.
وتقدم في قوله تعالى: {صم بكم عمي} في [سورة البقرة: 18].
ودخل في عمومه المشركون المعرضون عن القرآن وهم المقصود من سوق التذييل ليكون دخولهم في الحكم بطريقة الاستدلال بالعموم على الخصوص.
وتقييد عدم السماع بوقت الإعراض عند سماع الإنذار لتفظيع إعراضهم عن الإندار لأنه إعراض يُفضي بهم إلى الهلاك فهو أفظع من عدم سماع البشارة أو التحديث، ولأن التذييل مسوق عقب إنذارات كثيرة.
واختير لفظ الدعاء لأنه المطابق للغرض إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم داعيًا كما قال: {أدْعُوا إلى الله على بصيرةٍ} [يوسف: 108] والأظهر أن جملة {ولا يسمع الصم الدعاء} كلام مُخاطَب به الرسول صلى الله عليه وسلم وليس من جملة المأمور بأن يقوله لهم.
وقرأ الجمهور {ولا يَسمع} بتحتية في أوله ورفععِ الصمُّ.
وقرأه ابن عامر ولا تُسمِع بالتاء الفوقية المضمومة ونصب الصمّ خطابًا للرسول.